نوفمبر
2024
هو الإمام الشيخ محمد بن محمد أمين بن محمد المهدي العباسي الحنفي ولد بالإسكندرية 1243هـ - 1827 وأقام فيها حتى الثانية عشرة من عمره وفيها حفظ نصف القرآن الكريم. في سنة 1255هـ حضر للقاهرة وحفظ النصف الثاني منه في الأزهر وبعد عامٍ واحدٍ التحق بالأزهر الشريف ودرس العلوم الشرعية واللغوية على مشاهير علمائه منهم الشيخ السقَّا والشيخ خليل الرشيدي. في الحادية والعشرين من عمره قلده إبراهيم باشا منصب الإفتاء وانعقد لذلك مجلسٌ في القلعة حضره حسن باشا والشيخ العروسي وغيرهما من العلماء والوجهاء. كان المهدي يجمع بين الإفتاء والتدريس وكان يتمتع بذكاءٍ حادٍّ وبتحصيلٍ وافرٍ من العلم ولقد كانت ولايته منصب الإفتاء دافعًا له على القراءة والبحث والدرس حتى بلغ مكان الصدارة بين العلماء وأصبح جديرًا بمنصب الإفتاء مع التزامه بالأمانة والعفة والدقة فاشتهر بين الناس بالأمانة والحزم وعدم ممالأة الحكام. في سنة 1287هـ - 1870م تولَّى مشيخة الأزهر وجمع بينها وبين وظيفة الإفتاء وذلك في احتفالٍ بهيجٍ يليق باحترام هذا المنصب أقامه له الخديوي آنذاك.
خطا الأزهر في عهد الشيخ المهدي خطواتٍ واسعةً على طريق التقدم والازدهار فقد أعاد رواتب العلماء التي قطعت في عهد الأمير عباس وصرفها لمن بقي منهم على قيد الحياة ومن مات منهم جعلها لورثته الطالبين للعلم والمدرسين وكانت هذه الرواتب تصرف من خزينة الدولة وأصبح لهذا العمل الطيب من الشيخ المهدي أثره البالغ في نفوس العلماء فأحبوه والتفوا حوله. استصدر المهدي قانونًا لعقد امتحانٍ لكل من يريد التصدِّي للتدريس في الأزهر ووضعت لذلك المناهج والكتب ويمتحن الطالب أمام لجنة كبيرة من العلماء بجانب سمعة المدرس الطيبة وحسن سلوكه والشهادة له بذلك من شيوخه وإذا نجح الطالب تكتب له شهادة وترفع للخديو للتوقيع وتخلع على المدرس خلعة ويؤذن له بالتدريس في الأزهر. ألقت هذه النهضة أشعتها على الأزهر وعلى علمائه فقد ظهر جمال الدين الأفغاني وغيره الكثير وكذا الطلاب من بعده.
لم يتجاوب الشيخ المهدي مع ثورة عرابي فعزل عن المشيخة وحل محله الشيخ الأنبابي وبقي الشيخ المهدي مفتيًا ثم استقال أخيرًا من الإفتاء ومن المشيخة جميعًا. يعتبر الشيخ الإمام المهدي العباسي أول حنفيٍّ يتولى مشيخة الأزهر وأول من سن قانون امتحانات التدريس بالأزهر وأول من جمع بين منصبي الإفتاء والمشيخة في وقت واحد وهو أول من عاد إلى شياخة الأزهر مرة أخرى بعد عزله عنها من غير استقالة مسبقة ولم يمالئ الحكام فيما يريدون ويعتبر كل طلاب الأزهر في عهده هم طلابه وتلاميذه.
كان الشيخ المهدي صارمًا في التمسك بالحق والدفاع عنه وكان شديد المحافظة على كرامته وكرامة منصبه ولم يهزه أي تهديدٍ ولم يحاب بدينه وأصبح مرجعًا رسميًّا للحكومة في الإفتاء بعد مناقشةٍ طويلةٍ أمام الخديو ومجلس العلماء وقد وَلِيَ المهدي الإفتاء حوالي اثنين وخمسين عامًا وتقلد كرسي المشيخة ثمانية عشر عامًا وكان دقيقًا في اختيار القضاة الشرعيين ورجال الإفتاء ويتحرى فيهم النجابة والذكاء والتقوى والصلاح والعلم وكان يحميهم من تدخل الحكام ويشدُّ أزرهم. ألَّفت الحكومة لجنةً لاختيارهم من وزارة الحقانية "وزارة العدل" وكان الشيخ يستشار في عظائم الأمور ومعضلاتها ولم ترتق إليه أيُّ شائبةٍ أو شبهةٍ أو خطأ وكان يراجع الفتوى مرارًا وتكرارًا ويدرس الحكم دراسةً علميةً دقيقةً حتى أصبحت لديه ملكة ملهمة في الإفتاء وبصيرة ناقدة في دقائق الشرع.
للشيخ المهدي مصنفات كثيرة لم يطلعنا التاريخ عليها، منها:
1. الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية، وتضم علما غزيرا وثروة فقهية طائلة توجد بالقاهرة في ثمانية أجزاء كبيرة وتعتبر من أهم المصادر في الإفتاء.
2. رسالة في تحقيق ما اشتهر من تلفيق (فقه حنفي).
3. رسالة في مسألة الحرام على مذهب الحنفية.
لقد لازم الإمام المهدي المرض قبل سنواتٍ من وفاته وامتحنه الله بمرض الفالج وبقي الشيخ بداره فترة حتى أعيد إلى الإفتاء وقد وافته منيته الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء 13 رجب 1315هـ - 1898م عن اثنين وسبعين عاما وحزن الناس لوفاته حزنا شديدا وتكاثرت الوفود والحشود على داره لتشييع جنازته حتى بلغ عددهم أكثر من أربعين ألف مشيع ودُفِنَ بقرافة المجاورين في زاوية الشيخ الحفني إلى جوارأبيه وجده وشيع إلى مثواه الأخير في جنازةٍ مهيبةٍ بعد أن أُجريَت له المراسم المعتادة لشيوخ الأزهر الشريف، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته.
أضف تعليق