نوفمبر
2024
ولد عميد الأدب العربي فى عزبة صغيرة تقع على بعد كيلو متر واحد من مغاغة بمحافظة المنيا. والده هو حسين علي موظف في شركة السكر و له ثلاثة عشر ولداً كان سابعهم في الترتيب طه الذي أصابه رمد فعالجه الحلاق علاجاً ذهب بعينيه فى سن السادسه وكانت هذه العاهة هي السبب فى الكشف مبكرا عن ملكات طه حسين. فقد استطاع تكوين صورة حية فى مخيلته عن كل فرد من أفراد عائلته اعتمادا على حركة وصوت كل منهم بل كانت السبب المباشر فى الكشف عن عزيمته بعد ان قرر التغلب على عاهته بإطلاق العنان لخياله إلى آفاق بعيدة.
أتم طه حسين حفظ القرآن الكريم بينما لم يكن قد أكمل السنوات العشر وبعد ذلك بأربع سنوات بدأت رحلته الكبرى متوجها إلى الأزهر طلباً للعلم. في عام 1908 بدأ يتبرم بمحاضرات معظم شيوخ الأزهر فاقتصر على حضور بعضها فقط مثل درس الشيخ بخيت ودروس الأدب وفي العام ذاته أنشئت الجامعة المصرية فالتحق بها طه حسين وسمع دروس احمد زكي باشا في الحضارة الإسلامية واحمد كمال باشا في الحضارة المصرية القديمة ودروس الجغرافيا والتاريخ واللغات السامية والفلك والأدب والفلسفة.
اعد طه حسين رسالته للدكتوراه وقد نوقشت في 1914م وكانت عن ذكرى ابي العلاء وكانت أول كتاب قدم الى الجامعة واول رسالة دكتوراه منحتها الجامعة المصرية. وقد أحدث نشر هذه الرسالة في كتاب ضجة هائلة ومواقف متعارضة وصلت الى حد طلب احد نواب البرلمان حرمان طه حسين من حقوق الجامعيين (لأنه الف كتابا فيه الحاد وكفر) ولكن سعد زغلول اقنع النائب بالعدول عن مطالبه وفى نفس العام سافر طه حسين إلى فرنسا ضمن بعثة من الجامعة المصرية والتحق هناك بجامعة مونبلييه ودرس اللغة الفرنسية وعلم النفس والأدب والتاريخ.
لاسباب مالية عاد المبعوثين وفي العام التالي 1915 عاد طه حسين إلى بعثته ولكن إلى باريس هذه المرة حيث التحق بكلية الآداب بجامعة باريس وتلقى دروسه في التاريخ ثم في الاجتماع وقد اعد رسالة على يد عالم الاجتماع الشهير "اميل دوركايم" عن موضوع "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون" واكملها مع "بوجليه" بعد وفاة دوركايم وناقشها وحصل بها على درجة الدكتوراه في عام 1919م ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية.
تزوج بالسيدة سوزان "فرنسية" وتعرف الدكتور طه حسين على السيدة سوزان عندما كانت تقرأ مقطعا من شعر رايسين فأحب نغمات صوتها وعشق طريقة إلقائها وتعلق قلبه بها. في عام 1919 عاد طه حسين إلى مصر فعين أستاذا للتاريخ اليوناني والروماني واستمر كذلك حتى عام 1925 حيث تحولت الجامعة المصرية في ذلك العام إلى جامعة حكومية وعين طه حسين أستاذا لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب.
بدأت معركة طه حسين الكبرى من اجل التنوير واحترام العقل في عام 1926 عندما أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أحدث ضجة كبيرة ورفعت دعوى قضائية ضد طه حسين فأمرت النيابة بسحب الكتاب من منافذ البيع وأوقفت توزيعه. في عام 1928 تفجرت ضجة ثانية بتعيينه عميداً لكلية الآداب الأمر الذي اثار ازمة سياسية انتهت بالاتفاق مع طه حسين على الاستقالة فاشترط ان يعين اولاً وبالفعل عين ليوم واحد ثم قدم الاستقالة في المساء ثم اختارت الكلية طه حسين عميداً لها عام 1930 مع انتهاء عمادة ميشو الفرنسي وفي عام 1932 حدثت ازمة كبرى حيث كانت الحكومة ترغب في منح الدكتوراه الفخرية من كلية الآداب لبعض السياسيين فرفض طه حسين حفاظاً على مكانة الدرجة العلمية مما اضطر الحكومة إلى اللجوء لكلية الحقوق.
تم نقل طه حسين الى ديوان الوزارة فرفض العمل وتابع الحملة في الصحف والجامعة كما رفض تسوية الازمة الا بعد اعادته الى عمله وتدخل رئيس الوزراء فأحاله الى التقاعد في 29 مارس 1932 فلزم بيته ومارس الكتابة في بعض الصحف الى ان اشترى امتياز جريدة "الوادي" وتولى الاشراف على تحريرها ثم عاد الى الجامعة في نهاية عام 1934 وبعدها بعامين عاد عميداً لكلية الاداب واستمر حتى عام 1939 عندما انتدب مراقباً للثقافة في وزارة المعارف حتى عام 1942 وقد تسلم حزب الوفد الحكم فى فبراير 1942 ايذانا بتغير اخر فى حياته الوظيفية حتى انتدبه نجيب الهلالي وزير المعارف مستشاراً فنياً له ثم مديراً لجامعة الاسكندرية حتى احيل على التقاعد في 1944.
عام 1950 عين لاول مرة وزيراً للمعارف في الحكومة الوفدية التي استمرت حتى 1952 حتى يوم إحراق القاهرة حيث تم حل الحكومة ثم انصرف حتى وفاته عام 1973 الى الانتاج الفكري والنشاط في العديد من المجامع العلمية التي كان عضواً بها داخل مصر وخارجها.
تأثر طه حسين فى بداية حياته الفكرية بثلاثة من المفكرين المصريين هم الإمام محمد عبده والاستاذ قاسم أمين والاستاذ أحمد لطفي فمحمد عبده له السبق فى دعواه لإصلاح الأزهر والاستاذ قاسم امين له الفضل فى قضية تحرير المرأة والايمان بها كطاقة اجتماعية فعالة والأستاذ احمد لطفى السيد الفضل فى الدعوة لاستخدام العقل فى مناقشة قضايانا الاجتماعية والسياسية.
فكر طه حسين كان مزيج قوى بين حضارتين متصارعتين مختلفتين متغايرتين "حضارة الشرق" و"حضارة الغرب" وعصارة من جامعتين مختلفتين: الازهر الشريف وجامعة باريس. فطه حسين هو المفكر والأديب الذى تناول قضايا العلاقة بين الاصالة والمعاصرة وبين الموروث والمستحدث إلى قضايا التنازع بين قيود النقل وحرية العقل والعلاقة بين الشرق والغرب ونشر التعليم والقضاء على الأمية إلى جانب قضايا التجديد فى الأدب والفكر.
ما زال التراث الذي خلفه هذا العملاق احد أهم مصادر الاستنارة فى عالمنا الفكرى والادبى والثقافى فقد ترك لنا إرثاً غنياً يزيد عن الخمسين مؤلفاً في النقد الأدبي والقصة وفلسفة التربية والتاريخ وكم كبير من الترجمات فقد شغلت الترجمة طه حسين في جميع مراحل حياته. قدم قبل البعثة في 1914 بالاشتراك مع محمود رمضان كتاب "الواجب" لجول سيمون في جزءين.
منذ عودته من البعثة الفرنسية في 1919 في السنوات الاولى بعد العودة من البعثة قدم طه حسين من الأعمال المترجمة "نظام الاثينيين" لارسطو طاليس و"روح التربية" لغوستاف لوبون في 1921 ثم "قصص تمثيلية" لفرنسوا دي كوريل وآخرين في 1924. وما بين الثلاثينات والخمسينات قدم طه حسين في الترجمة "أندروماك" لراسين في 1935 و"أنتيجون" سوفوكليس في 1938 و"من الادب التمثيلي اليوناني" في 1939 كما كتب طه حسين الكثير من الفصول والمقالات المتفرقة عن الآداب الاجنبية جمع بعضها في كتب وقدم عدداً من الكتب المترجمة ذات القيمة في المكتبة العربية بالاضافة الى ما كتبه في الدوريات عن كثير من الكتب المترجمة إلى اللغة العربية.
ومن كتبه قدم فى عام 1925 "حديث الاربعاء" فى اجزائه الثلاثة ويتحدث فيه عن شعراء المجون والدعابة فى الدولتين الاموية والعباسية مثل مجنون بن عامر وعمر بن ابى ربيعة وبشار بن برد وهى الفصول التى كان ينشرها فى صحيفة السياسة. وكتاب "على هامش السيرة" ويعتبر تنقية للمادة الاسلامية مما يتداخل معها من المواد الاخرى من العلوم والفنون وتبسيط هذه المادة بالقدر الذى لا يفقدها معناها. ورواية "الايام" بأجزائها الثلاثة وهى رواية تتناول حياته الذاتية ونشرت مسلسلة فى مجلة الهلال وترجمت الى معظم لغات العالم وقدم كتاب "حافظ وشوقى" فى عام 1933 وهو دراسة عن شاعرى مصر الكبيرين أحمد شوقى وحافظ ابراهيم. من اشهر كتبه كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر" وفيه يضع الخطوط العريضة لرؤيته للاصلاح التربوى .
اسس طه حسين ومعه حسن محمود "مجلة الكاتب المصري" وكانت مراة للاشعاع الفكرى والابداع فى العالم العربى. تم تكريم عميد الأدب العربي فى مصر والعديد من الهيئات الدولية فلقب طه حسين بـ مارتن لوثر الشرق ورينان مصر الضرير وفى عام 1949 حصل على جائزة الدولة للآداب وفي عام 1950 اختير وزيرا للتعليم كما انهالت الدعوات على طه حسين من جامعات العالم لمنحه الدكتوراه الفخرية تقديرا لعلمه وادبه وفكره وتأتى في مقدمتها جامعة ليون مونبلييه ومدريد وروما وأكسفورد وأثينا وفى عام 1959 حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الادب العربي وفى عام 1965 حصل على قلادة النيل الكبرى وهى ارفع وسام فى مصر كما حصل فى اخر عام 1973 على جائزة من لجنة الامم المتحدة لحقوق الإنسان .
توفى طه حسين يوم الأحد 28 أكتوبر 1973م وقال عنه عبَّاس محمود العقاد إنه رجل جريء العقل مفطور على المناجزة والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير.
أضف تعليق